نحن الآن في الاهوار. ابتسم السائق، وهو يجيب على سؤالي: نعم، وهذا هور «الفهود»، وتلك كرفانات يسكنها إخوتنا النازحون. وأشار بيده اليسرى إلى كوخ القصب، قائلاً: إنهم يبيعون السمك! وظلت أذناي تسمعان بعضاً من كلامه، بينما ذهبت عيناي صوب الامتداد البصري الشاسع للأفق الممتد حيث اللانهايات: مياه ومياه، مياه وبردي في كل مكان، كما لو أن أحدهم قد صنع، على مهل، هذا الأفق الشاسع: مياه وبردي، وفي البعيد منه ثمة كوخ وبقرة تسعى، نساء متشحات بالسواد!
قالت سارة: هذه البقرة لن تعود إلى أهلها، ستضيع بين الوهاد! رهف التي استفزتها الكلمة التفتت إلي وسألتني: بابا، شنو وهاد؟ ضحك السائق، وقلت لها: وهاد تعني الأرض المنخفضة! وقبل أن تمضي في أسئلتها التي بلا نهاية قلت: يبدو أننا قد وصلنا! كان صديقنا شاكر الناصري يشير بيده، أن اتبعونا. كانت السيارة تتجه صوب قبة بيضاء كبيرة ترتفع عالياً وسط المياه والبردي، لكن سيارة عباس ريسان العارف بالمكان قد انعطفت بالرحلة صوب اتجاه آخر، لتتوقف عند مضيف "حداد" المبني بالقصب والبردي على طريقة أبناء سومر. كان صوت عباس ريسان واضحاً وقاطعاً وهو يشير بيديه الاثنين، ثم وهو يقول: لقد وصلنا! ولم يكن الوصول سوى أننا قد أصبحنا في الأهوار... نحن، إذن، في الأهوار أخيراً، اذن.. انزلوا جميعاً؛ لقد وصلنا.
***
رفيق الرحلة، صديقنا، أثير محمد شهاب، والذي رحب كثيراً بالرحلة وتحمس للذهاب معي إلى هناك، كان قد تحدث، في الطريق إلى هور الحمار، عن نجاح العراق بإقناع تركيا، أن تطلق كميات متفق عليها من المياه لإنعاش الأهوار، وتحدث عن دور "حسن الجنابي" في هذا الامر!
شخصياً لا أعرف حسن الجنابي، كما لو أن علي، بالفعل، أن أعرف، شخصياً، كل من أكتب عنهم، لاسيما من يتقلدون مناصب سياسية كبيرة، فهؤلاء يجب أن نشدد أننا لا نعرفهم، ونقسم مراراً على ذلك؛ دفعاً لأية شبهة سائرة أو في سبيلها لأحدهم! لكني رأيت اسمه في منشورات المعارضة العراقية "المجيدة" عندما كنت أعد أطروحتي في الدكتوراه عن رواية المنفى. وهذا التعريف الموجز به يشير إلى سمة رافقت وزراء ومسؤولي الدولة العراقية ما بعد الديكتاتور؛ فلابد أن يكون معارضاً لنظام صدام؛ ولأن المعارضة داخل العراق كانت معدومة أو مغيبة، فلابد أن يكون قادماً من الخارج - المنفى. وفي هذا السياق يكتب موقع إلكتروني عراقي معروف معرفاً بجانب من سيرة الوزير المقبل «أصبح وزيراً بالفعل بعد تصويت البرلمان، على الأقل حتى تنجلي الامور!». يقول الموقع: «عارض النظام السابق وقد اضطر لمغادرة العراق في عام 1979 بسبب القمع السياسي، وعمل في العديد من البلدان في المجالات الهندسية والسياسية والثقافية المختلفة، وبضمنها أستراليا (14 عاماً) أوروبا ( 6 أعوام)، والجزائر (4 أعوام)، ثم عاد للعراق مباشرة بعد سقوط النظام في عام 2003 وحتى تأريخ تسلمه لمنصب سفير العراق لدى منظمة الزراعة والأغذية الدولية التابعة للأمم المتحدة في روما في كانون الثاني عام 2009.» وهذا التعريف، بما يتضمنه من أوصاف ومواهب تحظى بالمقبولية لدى القائمين على أمر الناس في بلادنا، وهي ذاتها التي جعلته سفيراً. وهذا أمر جيد، أن تكون السيرة العلمية والإنجاز الوظيفي سبيلاً للمنصب، وإن كنت أعتقد أنه لولا صفتي المعارضة السياسية لنظام صدام، ولأن المعني قادم من ”المنفى“ لما كان هناك احتفاء بالسيرة العلمية، والأهم أن هناك جهة سياسية تتبني الوزير القادم ،حسن الجنابي. كل هذه الامور صحيحة، وبيقين أن الجميع ليس في وارد الإعتراض عليها، والسجال بخصوصها، لكن الأصح من وجهة نظري، ما أايته بأم عيني بيوم كامل أمضيته برحلة إلى أهوار الناصرية. ولم تكن الناصرية، المدينة العراقية الأكثر جاذبية مقصدي، إنما أهوارها، وبدقة أكثر هور الحمار. وليس فيما قلت جفاءً أو تهرباً من رؤية الناصرية، المدينة الاكثر تأثيراً، برأيي، على تشكيل العراق الحديث، إنما لأنها شأن أية مدينة عراقية لحقها ما لحقها من تدمير منظم، كان همي منصباً صوب «أهوارـ»ها، حيث أقامت هناك "مؤسسة الشهداء" التابعة لرئاسة الوزراء «نصب ومزار الشهداء في قضاء الجبايش»، وإلى جانبها أقيمت مقبرة رمزية لشهداء الأهوار، وثمة نصب وضع أمام القبة يحكي قصة ما حدث. كانت البناية من الخارج، ظاهرياً على الأقل، توحي بأن عملاً كبيراً كان من الممكن أن يحدث وينتج أموراً كبيرة ومؤثرة، ثمة أبنية طافية على الماء، فيما ركائزها تغور بعيداً في مياه الهور، لكنها تركت للإهمال بعد أن أعلنت الحكومة إفلاسها. لكن الإهمال لم يخرب تماماً جوهر ذلك العمل الكبير؛ فالمشروع الذي صرف عليه «مليارات.. يتحدث أبناء المدينة عن ثلاثة وعشرين مليار دينار، وهو رقم فلكي تم صرفه على قبة ونصب يمكن لأي فنان أن ينتج أفضل منه بكثير بمبلغ بسيط!!» كان من الممكن أن تحسن كثيراً من حياة أهل الهور والمدينة والبلاد حتماً، قد بدا لحظتها، أو ما أنجز منه، نظيفاً ومنسقاً، وبأسف لم يكن بالإمكان أن نتجول في القبة وما فيها من متحف ربما، إنما تجولنا حول المشروع. لكن المنجز الحقيقي الذي يجعلني أتذكر دكتور حسن الجنابي، ويدفعني إلى التفاؤل رغم ما يحيط بنا من فشل سياسي ومؤسساتي وغباء شنيع ندفع ثمنه يوماً بعد آخر، هو عودة الحياة إلى الأهوار. كان حسن الجنابي قد ترجم، من قبل، كتاباً مشهوراً عن الأهوار بعنوان "العودة إلى الأهوار"، وهو ذاته من أشرف على إنماء وإعادة الحياة للأهوار، وأظنه ضمن الفريق الطامح لإدراج الأهوار العراقية كلها، أو بعضها ضمن لائحة التراث العالمي، وهو عمل، إن تم، سيعادل، بيقين، ما أنجزته الحكومات العراقية المتلاحقة لخمسين عاماً. لنتخيل تلك المساحات المائية الشاسعة، وقد مثلت، لما يزيد عن سبعة آلاف سنة، نظاماً بيئياً متكاملاً، كانت لحظة الحضارة الاولى على الارض، سيوفر لها برنامج التراث العالمي الحماية من نقص المياه وتعسف الحاكم.
***
قبل «الحمار» أعد لنا بيت كريم وليمة سمك عامرة. قال شاكر: لا معنى أن تأتي إلى الأهوار ولا تأكل السمك! وفيما كان جبار وناس يتحدث عن فرادة رواية «القنافذ في يوم ساخن» لـفلاح رحيم، اغتنمت "رهف" فرصتها بعد أن أكلت نامت.
***
للأهوار قصة أخرى «أهي واحدة، بالفعل، أم أننا إزاء طوفان من القصص؟»، قصص تختلط مع مصائر البلاد المؤكدة، إن لم تكن هي التي صنعتها. خالد أحمد زكي مثل آخر للقصة المتقاطعة مع المخيلة الكسولة. كان مهندساً وعضو جمعية برنارد راسل للدفاع عن المعتقلين في العراق، قرر أن يترك لندن ويأتي إلى الأهوار، بالضبط إلى هور الغموكة في الشطرة – الناصرية ليعلن الثورة من هناك ضد النظام القومي، ولم يكن معه سوى إثني عشر رجلاً فقط لا غير! قصة جاهزة بانتظار من يكتبها لتمنحه الخلود. سكت عنها كتاب الرواية والقصة العراقيون ليتولى شهودها، وربما بعض أبطالها، رواية أحداثها لسوري فكانت عنده «وليمة لأعشاب البحر»، ولتمنحه، في لحظتها، الخلود مثلما لم تمنحه روايته الاولى، على فرادتها، «الزمن الموحش»، كانت الوليمة صدمة كبرى للتيار السلفي، حتى أنها كانت وراء خروج مظاهرات صاخبة في القاهرة مثلاً، لكنها كانت كارثة تسعى بأربع وأربعين قدما للمؤسسة الثقافية البعثية في العراق؛ فلم تكن الوليمة سوى القصة الاخرى في العراق مما لم يكتبه عراقي، إنما اكتفى بقراءة ما كتبه، ضمن الرواية قطعاً، صديق بريطاني لـخالد احمد زكي بعيد سماعه بنبأ مصرعه «كان خالد مزيجاً من غيفارا ودانتون. ما كان مجرد إنسان ثوري، نادر وعظيم، لكنه كان حميماً وقريباً من كل إنسان يعرفه. كان واضحاً، وهو في لندن، أنه يعد نفسه للقيام بأعمال عظيمة لا كفرد إنما كانسان جماهيري يحب شعبه حتى الاستشهاد». وكما لو أن "حيدر حيدر" قد عثر على مغارة علي بابا أصبح الجميع يفكر بالكتابة السردية عن الأهوار، لكن للكلام ثمناً باهظاً في العراق، أتحدث هنا عما سماه "التكرلي" يوماً، وعنون «قصتـ»ه، أو «روايتـ»ه به، إنه الوجه الاخر للحياة والتخيل؛ فللحكاية ألف وجه وصورة، أاكثر للرؤية والتفكير، زاوية النظر المختلفة، والأهم هناك ثيمة رئيسة تصنع قصة تمثل واقعاً بعينه، وهناك ما يسمح به وما لا يسمح به. الأصح أن نسمي الأمور بأسمائها، فما الذي كان على الكتاب أن يقوله إزاء حكايات الأهوار التي لا تنتهي، وأغلبها لا تريد السلطة أن تسمعها، أو ترى الجمهور يقرأها. كانت السلطة، مثلاً، وحتى سقوطها المدوي، رافضة لمنطق السرد ومنظوره وطريقة تمثيله للواقع في مجمل ما كتبه صانع الحكايات المختلفة جمعة اللامي، كما لو أن رفض السلطة فرقا عن قبولها لما يكتب هو الأساس في التخيل وتمثيل الواقع! إذن، ليست العبرة، مطلقاً، في أن تكون لديك قصة أو لا نكون، إنما الاصل كيف تكتب، ومن أية زاوية تنظر للامر، وواهم من يعتقد أن السلطة تهتم فقط بالحقائق المفارقة أو المختلفة عما تريد، إنما الأهم لديها هو الطريقة الكيفية التي تقال بها. هكذا سيكتب كثيرون عن الأهوار حتى بعد الاعتداء عليها وتجفيفها، بل وستساعد السلطة بطبع ما يكتب. ويمكننا أن نذكر أسماء بعضهم دون أن يعني هذا الأمر أنهم كانوا معها، فلكل منهما منطقه. ولم يكن أمام الكتاب سوى خيارين، أن يذهبوا الى «المنفى» أو يختاروا طريقة أخرى للكتابة، ربما كان أفضل توصيف لها هو «كتابة الصمت»، كان هذا شأن الراحل محمد الحمراني في روايته «الهروب الى اليابسة» المطبوعة في بغداد، والصادرة عن دار النشر الحكومية "دار الشؤون الثقافية"، وفي هذا الأمر دلالة كبرى. فيما كان على آخرين أن يختاروا الجهر والرؤية المختلفة، فكانت «عراقيون أجناب» لفيصل عبد الحسن، وكانت «ملائكة الجنوب» لنجم والي وروايات أخرى للكاتب. وسنعرف لاحقاً، بالضبط بعد سقوط البعث، أن هناك من سيتذكر الأهوار ويكتب عنها، أحمد خلف في «الحلم العظيم» وعبد الله صخي في «دروب الفقدان».
***
أغلب الظن، أن أحداً لم يفكر بمنطق ساكن تلك المسطحات المائية، بالضبط لم يسأل نفسه: ماذا يريد ذلك المخلوق الذي أصبح مضرباً للسخرية بصفة «المعيدي»؟ كان الليبراليون الشيعة قد تبنوا في ستينيات القرن الماضي مشروعاً عظيماً، لا يريد أحد الآن، على الأقل ممن يحكمون البلاد، وقد كان آباؤهم هم شجعوا وسعوا في هذا المشروع، أن يتذكره! ولم يكن المشروع سوى إنشاء جامعة كبيرة تكون موازية، بل ومنافسة لكيمبرج في بريطانيا. كان المشروع ينهض على أساس من فكرة عظيمة تطمح لإنماء الجنوب العراقي الغارق بالعزلة، أولاً، والتأخر الثقافي ثانياً. وأغلب الظن أنهم كانوا يقصدون بالجنوب ميسان والناصرية بجانب مدن أخرى كالسماوة والكوت، ولا أظنهم كانوا يفكرون بالبصرة العامرة بموقعها. لأجله، ربما، اختاروا مكان الجامعة في الكوفة، مدينة الامام علي، التي تشهد خراباً شنيعاً. لم يفكروا بالنجف، مثلاً، وهي العامرة بمرقد الإمام علي، إنما بالكوفة؛ لتكون مركزاً تنويرياً بفضل جامعتها. وفي «تراجيديا كربلاء» يسرد ابراهيم الحيدري وقائع كثيرة عن هذا المشروع العظيم. «فيما بعد سيروي لي زميل، من الكوفة ذاتها، في مرحلة دراسية سابقة كيف ذبح أحد رواد المشروع، ومن الساعين الجادين في سبيله، في المرقد العلوي الأعظم وهو يصلي، فيما فر آخرون بجلدهم، أو فرضت عليهم العزلة والصمت كان أحدهم العلامة مهدي المخزومي ولاشك!!». مات المشروع بعد وصول البعثيين للسلطة من جديد، كما لو أن موت المشروع لم يفد سوى موت سريري للجنوب العراقي.
فهل كان أولئك المثقفون المتنورون، وهم يحضرون ويسعون في مشروع جامعة الكوفة المنافسة لكيمبرج، يفكرون بابن الجبايش؟ قطعاً: نعم وألف نعم مثلها.
***
كان محمود درويش قد كتب بعد أوسلو: أيها الياس كن رحمة للغريب. وكان قبلها قد خاطب ياسر عرفات قبل أن يوقع على أوراق أوسلو: نحن نقامر بقضيتنا.. لحظتها تركت الصحافة العالمية تلك الأوراق لتنشغل بمقولة درويش. الآن نصل إلى مرحلة اليأس، نائل حنون، عالم الآثار، مثلاً، قال قبل أسبوع: أفضل طريقة لحماية الآثار أن نتركها تحت التراب! ولا يعني هذا الكلام سوى اليأس المرير من أي مشروع حكومي لحماية الآثار. وأفضل طريقة للنهوض بالأهوار أن نسلمها لليونسكو؛ فهي الأقدر على تنميتها.. فلم يعد لدينا مهدي المخزومي ليجمع المال من تجار الشورجة لأجل إنشاء الجامعة العالمية المتمناة، ولم يعد عندنا رئيس وزراء يمكنه تفهم هكذا مشاريع عظيمة كما هو شأن عبد الرحمن البزاز. ولنتذكر أن الجواهري قد مات عام ٩٧، وهو المثقف الوحيد الذي كان له شأن عندهم، بأن كلف بافتتاح مؤتمر المعارضة العراقية التي تحكم البلاد الآن، ولكن لنتذكر أيضاً أن هذا الأمر قد تم في زمن الجاهلية، قبل أن يصبح هؤلاء حكاماً للعراق!
*كتب المقال قبل إدراج الاهوار كموقع طبيعي على لائحة التراث العالمي مع مواقع آثارية عراقية مشهورة «أور، أريدو، الوركاء».
[صور من رحلة الكاتب إلى الأهوار]
[أمام نصب الشهداء]
[المشاحيف في الأهوار]